سياحة سياسية في الشرق الأوسط عام 2000

اليوم هو آخر يوم عمل لي في القسم العربي في راديو كندا الدولي قبل تقاعدي من الإذاعة في الأول من نيسان - أبريل المقبل. وأحببت نشر مقال كتبته عام 2000 في أعقاب قيامي بجولة في سبع دول شرق أوسطية وخليجية برفقة الوفد الكندي برئاسة جان كريتيان، رئيس الحكومة الكندية يومها، وفيه مشاهدات وعرض للأوضاع السائدة يومها في تلك الدول، ومشاعر أحسست بها خلال الجولة.

وتعود ، بعد اثني عشر يوما من تجوال في الشرق الأوسط والخليج ، برفقة الوفد الكندي ، تعود مثقلا بالمشاعر والأحاسيس المتناقضة : غبطة يكتنفها حزن وقلق .. إعتزاز وفخر يشوبه ضيق واشمئزاز .. وأمل ممزوج بألم .. تعود وقد خزنت في الذاكرة صورا ومشاهد وأقوالا وزلات لسان ، تتنازعك مجموعة ضخمة من الآراء والمواقف والتحاليل ، وحنين يشدك إلى هناك بالرغم من كل ما في هناك من ضغط وحيرة وقلق من المستقبل ، وعلى المستقبل ...

من إسرائيل المنقسمة على نفسها والمهددة بانهيار الهيكل والباحثة عن السلم مع الذات قبل السلام مع الآخرين والتي انتصرت على الجيوش العربية وهزمتها حفنة من المقاومين هزوا صورتها وزرعوا الشك في ثقة شعبها بالتفوق العسكري

إلى القدس الضائعة الهوية ، المتهودة بشدة غربا والممعنة في عروبتها شرقا والمنتظرة قدوم مخلص جديد ينقذها وشعبَها من الضياع والتشتت مرة أخرى ...

إلى غزة والضفة الحزينتين الغاضبتين الهاربتين من احتلال ظالم إلى حرية مظلمة ...

إلى القاهرة النائمة على زخم أمجاد ماضيها والمستيقظة أبدا على زحمة طرقاتها وشوارعها وأزقتها سيارات وعربات وبشرا وستين مليون فم لا يشبعهم خبز المجد الغابر وملح الأيام الصعبة .. وحكم يشرع الأبواب على الانفتاح السياسي والاقتصادي ، وسلام بارد يتناقض وحرارةَ صحرائها وطيبَ شعبها ..

إلى بيروت الباحثة عن نفسها بين أنقاض حرب لم تنته بعد كل فصولها وعمران سلم غيّر وجه حجرها ولم يبدل فوضى بشرها .. بين حاضر يكتنفه القلق والانتظار ومستقبل مرتهن لإرادة غير إرادتها .. وشعب يدهشك طموح له ، لا حدود له ، وخضوع لأمر واقع لا يمتلك ثمن تغييره ..

إلى عمان وقد نفضت عنها غبار الحرب وهمومها واستيقظت على فجر شاب جديد تلملم تشتت شعبيها تحت راية ازدهار ورفاه يبدو ممكنا ..

إلى دمشق عاصمة القرار السياسي حربا وسلما وحاملة مفتاح الحل بغيرة تكاد توصد الأبواب ، والمنتظرة بقلق مستقبلا ليس مضمونا والرازحة تحت أطنان من الصور والشعارات المعلقة على الدكاكين والشرفات والطرقات والسيارات لا تغير معالم واقع اقتصادي صعب يعانيه شعبها الطيب المضياف ..

إلى جدة المستلقية برفاه النفط على شاطئ البحر الأحمر .. المتهمة بالتخمة وأبناء قومها جائعون ، والضائعة هي الأخرى بين حضارة مستوردة بكل تفاصيلها ، وعراقة قبلية عربية متجذرة وغير مفصلة على قياس الغرب ومقاييسه وقيمه ...

تعود ، بعد اثني عشر يوما من تجوال في الشرق الأوسط والخليج ، ولا تجد جوابا لمجموعة من الأسئلة والتساؤلات حزمتها في حقائبك وحملتها من مدينة إلى مدينة ، لعل أهمها حول المصير : هل يتحقق السلام ومعه أحلام ملايين البشر بالرفاه والعيش الكريم فتنفق الأموال الطائلة على البناء بدل الهدم والتعليم بدل الحقد والرفاه بدل الفقر والحرمان ؟.. وهل تستيقظ المنطقة يوما على فجر جديد يزيل الكابوس الرابض على صدرها منذ نصف قرن فتتحول السجون إلى مدارس والثكنات العسكرية إلى مستشفيات وأسلاك الحدود الشائكة إلى باقات زهر وفرح ؟..

ولا تجد جوابا شافيا : فالسلام مؤجل والحرب مشروع ما زال واردا والخلاف على أمتار من الأرض ونزر من مياه وحفنات من تراب ... وأجيال وقدرات وطاقات تضيع .. وشباب يسألونك عن إمكان الهجرة حتى لا يضيع المستقبل بعد ضياع الماضي والحاضر ..

تعود من الشرق حزينا بالرغم من لقاء الأحبة والأصدقاء والتراب والذكريات ..

تعود من الشرق قلقا بالرغم من الوساطات والتطمينات والتعهدات ..

تعود من الشرق إلى الغرب وتحس أنك بت غريبا هنا وهناك

... تعود من الشرق ... وتكتفي بالصلاة والدعاءاستمعوا

فئة:دولي
كلمات مفتاحية:، ،

هل لاحظتم وجود خطاّ ما؟ انقر هنا!

لأسباب خارجة عن إرادتنا ، ولفترة غير محددة ، أُغلقت خانة التعليقات. وتظل شبكاتنا الاجتماعية مفتوحة لتعليقاتكم.