رحلَ إيدير. غادر نهاية الأسبوع الفائت دُنيانا عن سبعين عاماً، أمضى العقود الأربعة والنصف الأخيرة منها في فرنسا، تاركاً إرثاً فنياً ذا أهمية كبيرة، ومُحبين كثيرين حول العالم عشقوا أغنياته وموسيقاه.
لم يكن إيدير، ابنُ منطقة القبائل في الجزائر، غزيرَ الإنتاج، لكنّ ما قدّمه على امتداد نحوٍ من خمسة عقود من الزمن جعل منه السفير الأول للأغنية الأمازيغية حول العالم.
"أيقونة الفنّ الجزائري وصاحب السمعة العالمية"، قال عنه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون مترحّماً عليه، مضيفاً "بهذا المصاب تفقد الجزائر هرماً من أهراماتها".
وقالت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إنّ وفاة إيدير "سفيرِ الأغنية الأمازيغية ولغتِه الأم وثقافتِه العريقة، خسارةٌ لنا جميعاً".
فإيدير، واسمه بالولادة حميد شريات، كان رائداً في تجديد الأغنية الأمازيغية، القبائلية تحديداً، مع أنه لم يكن في الأساس يسعى لشقّ مسيرة فنية. فابن الراعي في جبال جرجرة كان يتخصص في علم الجيولوجيا بهدف العمل في قطاع النفط في بلاده.
لكنّ الصدف شاءت تغيير مسار حياته. ففي عام 1973 قدّم للمغنية نوّارة، واسمها الحقيقي زهية حميزي، أغنية "أفافا إينوفا"، وهي تهويدة اشترك مع الشاعر محمد بن حمدوش في كتابة كلماتها باللغة الأمازيغية، بلهجتها القبائلية، ولحّنها بنفسه.
إلّا أنّ نوّارة كانت مريضة في اليوم الذي كان من المفترض أن تؤدّي فيه الأغنية في الإذاعة الجزائرية، فأدّى إيدير الأغنية عوضاً عنها، برفقة قيثارته، وكانت نقطة تحوّل في حياته.
فقد لاقت الأغنية رواجاً كبيراً، في الجزائر أولاً ثم خارج حدودها، في وقتٍ كان فيه إيدير يؤدّي الخدمة العسكرية الإلزامية ومدّتها سنتان. وعام 1975 قصد العاصمة الفرنسية بدعوة من شركة "باتيه ماركوني" لإنتاج الاسطوانات الغنائية، فصدر في العام التالي ألبومه الأول بعنوان "أفافا إينوفا" ومن ضمنه الأغنية الشهيرة.

مشهد من جبال جرجرة، مسقط رأس الفنّان إيدير، في منطقة القبائل في الجزائر (Mayasmith1 / Wikipedia)
ومن خلال "أفافا إينوفا" أعطى إيدير الأغنية المغاربية أوّل نجاح عالمي، إذ انتشرت هذه الأغنية في نحوٍ من ثمانين بلداً حول العالم وبخمس عشرة لغة مختلفة.
ثمّ أصدر البوماً ثانياً عام 1979 بعنوان "أيارّاشنّغ" ("يا أطفالنا")، أتبعه بسلسلة طويلة من الحفلات الغنائية، ليبتعد بعد ذلك عن الأضواء عقداً من الزمن اكتفى خلاله بتقديم عدد محدود من الحفلات.
وعاد إيدير إلى الساحة الفنية عام 1991، فأصدر ألبوماً ضمّ سبع عشرة أغنية من ألبوميْه الأوليْن، واستأنف الحفلات الغنائية وإنتاج ألبومات جديدة بالأمازيغية القبائلية والفرنسية.
وعام 2017 أصدر إيدير ألبومه الأخير "Ici et ailleurs" ("هنا وفي أماكن أخرى") الذي تضمّن أغنيات ثنائية مع كوكبة من كبار الأغنية الفرنسية، من بينهم شارل أزنافور وفرانسيس كابريل وماكسيم لو فوريستييه.

المغنّي الجزائري إيدير مخاطباً الجمهور في حفلةٍ له في 27 تموز (يوليو) 2007 في إطار النسخة الـ32 لمهرجان باليو (Paléo) الموسيقي في مدينة نيون في سويسرا (Salvatore Di Nolfi / AP Photo/Keystone)
ولناي (فلوت) الراعي القبائلي والغيتار منزلة رفيعة في الألبومات الأحد عشر التي أصدرها إيدير وفي الحفلات الكثيرة التي أحياها خلال مسيرته الفنية، وللدفّ والبندير أيضاً حضور متميز فيها.
وعبّر إيدير في أغنياته عن حبّه لثقافته الأمازيغية وتعلّقه بهويته التي حرص على التأكيد على أنها لا تتعارض مع جزائريته ولا مع انتمائه للعالم الواسع المتنوّع بأعراقه وثقافاته وحضاراته.
وهذا ما كان الرجل الهادئ الطباع، الذي عُرف بتواضعه، يحرص على تكراره في حفلاته حول العالم أمام جمهور متنوّع، وإن كان عشاق فنه في غالبيتهم من الأمازيغيين، لاسيما من القبائليين.
وكان إيدير يقول إنّ هويته مطبوعة أيضاً بـ"قواعد حياتية فلسفية من خلال الدين الإسلامي"، وكان يعتبر أنّ الدين "مسألة قناعة شخصية، كما يقول العرب: ’’بينك وبين مولاك‘‘، أمّا الباقي فتنظمه قوانين الجمهورية".
وأولى إيدير المرأة أهمية كبرى في أغنياته، كـ"اسّندو" التي أدّاها بالأمازيغية أو "رسالة إلى ابنتي" (Lettre à ma fille) بالفرنسية التي أدّاها برفقة ابنته ثانينا على البيانو والتي وضع كلماتها المؤلف والملحن والمغني الفرنسي فابيان مارسو المعروف فنياً باسم "Grand Corps Malade".

المغني والمؤلف والملحن الجزائري إيدير في أحد استديوهات راديو كندا في آذار (مارس) 2013 (Michel Harvey / Radio-Canada)
وقدّم إيدير حفلتيْن تاريخيتيْن في الجزائر العاصمة في الرابع والخامس من كانون الثاني (يناير) 2018، إذ كانت المرة الأولى التي يغني فيها في وطنه بعد انقطاع عن الغناء فيه، وليس عن زيارته، دام 38 عاماً.
وإيدير الذي ناضل طوال مسيرته الفنية من أجل الاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية قدّم هاتيْن الحفلتيْن تزامناً مع إعلان السلطات الجزائرية رأسَ السنة الأمازيغية الموافق في الثاني عشر من كانون الثاني (يناير) عيداً رسمياً، وللمرة الأولى، بهدف تعزيز "الوحدة الوطنية".
وكانت الجزائر قد اعترفت بالأمازيغية "لغةً وطنية" عام 2004 في أوائل العُهدة الثانية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وعام 2016 أصبحت الأمازيغية لغة رسمية مع تبني البرلمان الجزائري مراجعة دستورية نصت على اعتبارها "لغة وطنية ورسمية".
وفي مقابلة مع صحيفة "جورنال دو ديمانش" الفرنسية في نيسان (أبريل) 2019، بعد أيام على تنحي الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، تحدّث إيدير عن الحراك الشعبي في وطنه.
"أحببت كلّ شيء في هذه التظاهرات الشعبية: ذكاء جيل الشباب وحسّ الفكاهة لديه وعزمه على المحافظة على السلمية (...) أقرّ بأني عشت لحظات السعادة هذه منذ 22 شباط (فبراير) كنفحات أوكسجين (دخلت إلى جسمي). وأنا مصاب بتليف رئوي وأعرف جيداً عمّا أتكلم"، قال إيدير في المقابلة، قبل سنةٍ ونيّف من رحيله بعد صراع طويل مع هذا المرض التنفسي.
والثاني والعشرون من شباط (فبراير) 2019 هو تاريخ انطلاق الحراك الجزائري.

إيدير في راديو كندا الدولي في آذار (مارس) 2013 (حقوق الصورة لـ RCI)
وكان للجمهور الكندي نصيبه من حفلات إيدير، لاسيما جمهور مقاطعة كيبيك حيث تقيم الغالبية الساحقة من الكنديين من أصول جزائرية ومغاربية. فكان عرّاب النسخة الـ22 من مهرجان "ليالي إفريقيا" الفني في مونتريال، وشبّهته آنذاك صحيفة "لا بريس" الصادرة بالفرنسية بجيل فينيو وفيليكس لوكلير وريشار ديجاردان، وهم من أبرز عمالقة الأغنية الكيبيكية الفرنسية.
وقدّم إيدير آخر حفلتيْن له في مقاطعة كيبيك في نيسان (أبريل) 2018، الأولى في كيبيك العاصمة والثانية في مونتريال.
(راديو كندا الدولي / أ ف ب / لو موند / ليبراسيون / لكسبريس / لا بريس / فرانس 24 / النهار)
روابط ذات صلة:
كندا على موعد مع سفير الأغنية الأمازيغية القبائلية حول العالم
Idir, la voix des Kabyles au Québec
Pourquoi cette pluie? Hommage en poésie au chanteur Idir
(Le Billet de Sophia Aram / France Inter)
لأسباب خارجة عن إرادتنا ، ولفترة غير محددة ، أُغلقت خانة التعليقات. وتظل شبكاتنا الاجتماعية مفتوحة لتعليقاتكم.