مهرجان العالم العربي في مونتريال في نسخة افتراضيّة هذه السنة، والسبب يعود إلى جائحة فيروس كورونا المستجدّ.
لكنّ الجائحة لم تثن المهرجان عن تقديم أنشطته الفنيّة والثقافيّة والسياسيّة المتنوّعة كالمعتاد.
ونظّم المهرجان الذي يستمرّ من 12 حتّى 29 تشرين الثاني نوفمبر، مجموعة من المحاضرات واللقاءات حول طاولة مستديرة تناولت شؤونا عربيّة وشرق أوسطيّة.
وتجري فعاليّات المهرجان باللّغة الفرنسيّة ليتسنّى متابعتها من قبل شريحة واسعة من روّاده، بمن فيهم كنديّون وكيبيكيّون وكنديّون من أصول عربيّة على حدّ سواء.
لبنان 100 سنة من الأوهام؟ عنوان يحمل علامة استفهام اختاره منظّمو المهرجان، في ذكرى مرور مئة عام على ولادة لبنان الكبير.
وتحدّث في اللقاء الذي نشّطته مي أبو صعب الأب البروفسور جورج حبيقة الرئيس الفخري لجامعة الروح القدس في الكسليك في لبنان، ود. ماري جويل زهّار أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة مونتريال.

علم لبنان يرفرف على خلفيّة الدمار الذي ألحقه الانفجار في مرفأ بيروت و بعض مناطق العاصمة اللبنانيّة/Ahmad Malla/AP
يتحدّث الأب البروفسور جورج حبيقة، المحاضر وصاحب المؤلّفات الكثيرة في مداخلة معمّقة عن تاريخ لبنان.
و يستعرض تاريخه الضارب الجذور في الحضارة الفينيقيّة، ويقول إنّ لبنان لم يُبصر النور عام 1920 يوم تمّ إنشاء دولة لبنان الكبير، بل هو بلد قديم والكتاب المقدّس أتى على ذكره 74 مرّة.
ويغوص الأب حبيقة في عرض معمّق وشيّق لحضارة الإغريق مشيرا إلى أنّها طوّرت صيغتين مختلفتين للإدارة، إحداهما في إسبرطة التي سعت إلى صهر أبنائها في بوتقة واحدة بعيدا عن كلّ ما هو غريب عنها، والأخرى في أثينا التي طوّرت نموذجا ديمقراطيّا منفتحا على المعرفة وعلى الآخر.
وكان النصر العسكري من نصيب إسبرطة، وكان الخلود والمجد والاستدامة كان من نصيب أثينا التي شعّ فكرها وفلسفتها وحضارتها حول العالم.
ولبنان ظلّ بعيدا عن نموذج الانصهار وحافظ على التعديديّة و احترام حقّ الآخر في الاختلاف ،ورفض الانصهار الوطني، علما أنّ مصطلح الإنصهار يُسخدم في مجال صهر المعادن.
والتعدديّة تؤدّي إلى نوع من الهشاشة، وقد نكون خاسرين على الصعيد العسكري، ولكنّنا الفائزون ثقافيّا والمؤهّلون للاستمراريّة والاستدامة كما يقول الأب البروفسور جورج حبيقة.
وينقل الأب حبيقة عن البابا الراحل جون بول الثاني ، قوله إنّ لبنان رسالة، ويضيف أنّ النموذج اللبناني فريد من نوعه بين دول الشرق الأوسط، وكان دوما الملاذ لأبناء المنطقة الهاربين من القمع في دولهم.
وتقول د. ماري جويل زهّار أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة مونتريال إنّ التاريخ يمرّ بمراحل من الاستمراريّة وأخرى من الانقطاع وذاكرة التاريخ تختلف هي الأخرى من مرحلة إلى أخرى.
وتتساءل د. زهّار إن كانت التعدّديّة والخصوصيّة التي تميّز لبنان جاءت على حساب النسيج الاجتماعي.
والأزمة التي يعيشها لبنان ليست وليدة الساعة بل تعود إلى ولادة دولة لبنان الحديث التي جاءت على أساس تسوية بين طائفتين دون أن تقبل بها الطوائف الأخرى بالضرورة.
وهذا ما حصل خلال ولادة لبنان الكبير قبل 100 عام، حيث كان لدى بعض اللبنانيّين شعور أقوى بالانتماء إلى ما يُسمّى سوريا الكبرى أو إلى الأمبراطوريّة العثمانيّة.
ويصعب التحاور في ظلّ هذه الخلافات التاريخيّة القديمة والحاليّة كما تقول أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة مونتريال ماري جويل زهّار.
وتتحدّث د. زهّار عن أوهام لدى اللبنانيّين، في طليعتها وهم التعدديّة.
ففي لبنان تعيش 17 طائفة دون أن يعني ذلك من منطق تحليلي أنّها تعيش معا.
وتعطي د. زهّار مثال التعدديّة الكنديّة و ومفهوم الاشتمال حيث يشارك كلّ فرد على قدم المساواة، و بغضّ النظر عن انتماءاته، في بناء البلد.

الانفجار المدمّر في فرفأ بيروت في 4 آب أغسطس فاقم الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة التي يعانيها لبنان/Hussein Malla/AP
وهذه المساواة لم تتحقّق في لبنان، وهناك اختلافات كثيرة بين فئات المجتمع والنخبة.
وهناك نخبة من المثقّفين وأصحاب الاطّلاع الواسع تدعو إلى العلمانيّة والديمقراطيّة، ولكنّ قلّة قليلة تشاركها الرأي.
وتشير د. ماري جويل زهّار إلى حركة الاحتجاج الواسعة التي شهدها لبنان عام 2005، يوم نزل مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع للمطالبة بخروج الجيش السوري وقيام دولة حديثة، لا مسيحيّة ولا مسلمة، وهويّة مشتركة تجمع بينهم، دون التنكّر لانتمائهم الطائفي.
لكنّ هذه الحركة غير المسبوقة تلاشت، ورأينا بعضا من جوانبها في الانتفاضة الأخيرة عام 2019.
وتفاقمت الخلافات السياسيّة بعد العام 2008 كما تقول أستاذة العلوم السياسيّة، وتشير إلى المحاولات التي جرت من أجل حلّ المشاكل المعمّقة بين اهل السياسة من خلال الحوار، ولكنّ الحوار ظلّ من باب الأوهام، دون أن يتحلّى اللبنانيّون بما يكفي من الشجاعة للخوض في حوار حقيقي.
وتشير د. زهّار إلى وهم آخر، وهو ميل اللبنانيّين إلى تحميل الآخرين مسؤوليّة المشاكل التي يعانون منها، ويتحدّثون عمّا أسماه (الوزير والسياسي والصحفي الكبير الراحل) غسّان تويني حرب الآخرين على أرضهم.
والوهم الآخر الذي قلّما يجري الحديث عنه هو لجوء اللبنانيّين للاستعانة بحلفاء إقليميّين ودوليّين من أجل حلّ مشاكلهم التي عجزوا عن حلّها بأنفسهم بسبب عدم مرونة النظام السياسي اللبناني.
وتتحدّث د. زهّار عن اصطفافات سياسيّة وتحالفات عرقلت الحوار وعمّقت الخلافات منذ العام 2008، كما هو حاصل في الوقت الراهن، بين حزب الله وحلفائه من جهة، وباقي الفرقاء من الجهة الأخرى، وسط المنافسة القائمة في المنطقة بين السعوديّة وإيران.
وحلّ المشاكل بين الأطراف اللبنانيّة يمرّ عبر المنافسة الإقليميّة وعلاقة دول الغرب مع إيران.
والوهم المؤلم أكثر من سواه، هو وهم بناء الدولة، في وقت الدولة غائبة ولا تتدخّل في الشأن الاقتصادي ولا في الشؤون الاجتماعيّة، ومفهوم القانون والمساءلة والمحاسبة غير موجود كما تقول د. ماري جويل زهّار.
وتعمّقت الهوّة بين الأغنياء والفقراء في غياب دولة الرعاية التي تقدّم المساعدة لمواطنيها، وازدادت المشكلة حدّة في ظلّ جائحة كوفيد-19 وحلّت منظّمات المجتمع المدني مكان مؤسّسات الدولة الغائبة.
روابط ذات صلة:
لأسباب خارجة عن إرادتنا ، ولفترة غير محددة ، أُغلقت خانة التعليقات. وتظل شبكاتنا الاجتماعية مفتوحة لتعليقاتكم.